السودان- حرب إقليمية، مطامع دولية، وتحالفات معقدة

المؤلف: الصادق الرزيقي11.20.2025
السودان- حرب إقليمية، مطامع دولية، وتحالفات معقدة

لا مرية في أن الحرب المشتعلة في أرجاء السودان، ومنذ اللحظة الأولى، اتخذت منحىً إقليميًا، وباتت رقعتها قابلة للتوسع المطرد. فالدول والمنظمات والهيئات الإقليمية المختلفة منخرطة بعمق في أتون هذا الصراع المتفاقم، وكل جهة من هذه الجهات تسعى جاهدة لتحقيق مآربها وغاياتها المتنوعة، وتتبنى مواقف علنية وخفية، ممّا أفضى إلى نشوء تحالفات معقدة ومتشابكة فيما بينها. لقد كشف هذا الاقتتال الشرس في أرض النيلين عن حجم التنافس والتكالب الإقليمي والدولي على السودان، وما يزخر به من موارد وثروات، وموقعه الاستراتيجي المتميز. وقد تم استغلال هذه الحرب توظيفًا خبيثًا لإحداث تحولات جيوسياسية عميقة في هذه المنطقة الحيوية من قارة أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي، بهدف بسط النفوذ والسيطرة على مقدراتها.

منذ سقوط نظام البشير في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019، والمسرح السوداني مهيأ لهذه الحرب الضروس وفق رؤى إستراتيجية طموحة. فمنذ ذلك الحين، انفتحت الشهية على أوسع نطاق، وبدأت الأطراف الدولية في نسج تحالفاتها المعقدة، وتشابكت الخطوط في الداخل، وعُقدت صفقات مشبوهة مع بعض دول الجوار، وتحددت التوجهات طوال السنوات الأربع الماضية. وما إن اندلعت الحرب، حتى تجمعت الصفوف واصطفت اصطفافًا دقيقًا ومحكمًا، حيث تتخذ المواقف المحددة سلفًا، وينكشف المحجوب والمستور من تحالفات واتفاقيات إقليمية ودولية، وتوضع جميع أوراق اللعبة على طاولة المفاوضات.

يمكن تحليل مواقف دول الجوار السوداني من خلال معيار أساسي واحد، هو مدى وحجم وشدة اللهفة في تحقيق المصالح والمطامع المختلفة، سواء من قبل الأطراف الداخلية أو القوى الخارجية المتدخلة.

وغني عن البيان، أن عوامل الجغرافيا، بما في ذلك موقع السودان المتميز في قلب القارة الأفريقية، والطمع في موارده الطبيعية الهائلة، ومتطلبات الأمن الإقليمي والدولي، والتوازنات السياسية المعقدة في المنطقة، قد لعبت دورًا حاسمًا في إشعال فتيل الحرب وتأجيجها وإطالة أمدها، وذلك لتحقيق أهداف معينة في دولة كانت ذات يوم أكبر البلدان الأفريقية والعربية، ولا تزال تحتفظ بمكانتها ضمن الدول الكبرى من حيث المساحة، حتى بعد انفصال جنوب السودان.

تتلخص مواقف دول الجوار السوداني واتجاهاتها فيما يلي:

 إريتريا

كان التخوف من قوات الدعم السريع هاجسًا يلازم الرئيس الإريتري أسياس أفورقي منذ عام 2015، وذلك على خلفية مشاركة هذه القوات في حرب اليمن، ودورها في معارك دارفور ضد الحركات المتمردة آنذاك. وعندما قام قائد الدعم السريع، اللواء محمد حمدان دقلو، بزيارة إلى مدينة كسلا برفقة والي الولاية الجديد آدم جماع في شهر يونيو/حزيران من عام 2016، أثيرت تساؤلات عديدة في إريتريا حول مغزى مشاركة قائد الدعم السريع في احتفالات الولاية. هل كانت هناك رغبة من جانب الخرطوم في توسيع نفوذ هذه القوات شرقًا، والعمل على تجنيد أبناء قبائل الشرق في صفوفها؟ وقد أعرب أكثر من مسؤول إريتري عن مخاوفهم في زيارات متكررة إلى الخرطوم، خاصة بعد تدهور العلاقات بين البلدين، وإغلاق الحدود بقرار من السودان في عام 2016.

لكن سرعان ما تلاشت المخاوف الإريترية إلى حد ما بعد عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، وعندما أصبحت قوات الدعم السريع تشارك في مكافحة الهجرة غير الشرعية للهاربين من دول القرن الأفريقي عبر حدود إريتريا وإثيوبيا إلى ليبيا، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقد بذلت الخرطوم جهودًا مضنية في طمأنة الجانب الإريتري. وعقب التغيير الذي حدث في 11 أبريل/نيسان 2019 ورحيل البشير، ووصول قائد الدعم السريع إلى منصب الرجل الثاني في الدولة، تهيأت الظروف لعلاقة مباشرة بين حميدتي والرئيس الإريتري.

وقد جرت لقاءات متعددة بينهما في العاصمتين، وكان الإقليم داعمًا للتغيير في السودان إلى جانب دول الخليج التي عمل بعضها على تشجيع نوع من التفاهم بين إريتريا والدعم السريع. وفي الوقت نفسه، كانت لدى أسمرة علاقات جيدة مع قيادة الجيش في السودان، وتوجد ملفات أمنية وسياسية تحكم مسار هذا التفاهم.

حاولت بعض الدول الإقليمية، انطلاقًا من علاقاتها مع إريتريا، دمج قضية الدعم السريع كملف نشط بينهما، بالإضافة إلى ملف حرب إقليم تيغراي الإثيوبي والدور الإريتري فيها. وقد تمت محاولات للاستثمار من قبل الدعم السريع في إريتريا، حيث تعاونت إريتريا مع بعض الدول في إنشاء مركز لتجميع وعبور بعض قوات الدعم السريع التي شاركت في حرب اليمن عبر موانئ إريتريا.

وقبل شهر واحد من نشوب الحرب، قام حميدتي بزيارة إلى إريتريا في 13 مارس/آذار 2023، وذلك في ظل تصاعد التوتر وإشارات الحرب وعمليات التحشيد. وخلال اجتماعه مع أسياس أفورقي، شنّ هجومًا لاذعًا على الفريق عبد الفتاح البرهان، والجيش السوداني، وألمح إلى نيته تنفيذ عمل عسكري حاسم إذا لم يوقع الجيش بقيادة البرهان على الاتفاق الإطاري بصيغته النهائية. لكن أفورقي ردّ بعدم الانخراط في هذه المغامرة الخاسرة، وأكد أن الأمور ليست سهلة في الجيش السوداني.

وعلى الرغم من تهكم حميدتي على الجيش وانتقاده له، إلا أن أفورقي أنهى اللقاء بنصيحة له بعدم المخاطرة بهذه الخطوة المدمرة، وذلك في مصلحة حميدتي أولًا، ومن ثم في مصلحة السودان.

وعندما اندلعت الحرب، أعلنت إريتريا موقفًا واضحًا يدعو إلى وقف الحرب، ومنع تصاعد الصراع.

وأعلنت أسمرا عن دعوتها إلى إنهاء الحرب ومنع تفاقم النزاع وعدم تدويل الصراع، وأكدت على ضرورة مساهمة الدول المجاورة للسودان بشكل إيجابي في إيجاد حلول تضمن سلامة الأراضي السودانية ووحدة ترابها. كما تسلط إريتريا الضوء على شرق السودان، والعلاقات الثقافية والقبلية العميقة، والروابط التاريخية المتينة بين البلدين، وتأخذ في الاعتبار التداعيات المحتملة للنزاع السوداني على منطقة القرن الأفريقي بأسرها.

وفي الآونة الأخيرة، تعززت علاقة إريتريا مع مجلس السيادة والحكومة والجيش السوداني، حيث تم التنسيق في العديد من القضايا والملفات ذات الاهتمام المشترك. ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تطورات هامة في منطقة القرن الأفريقي، وذلك بسبب النزاع الصومالي الإثيوبي، وزيارة الرئيس الصومالي لإريتريا قبل أيام. ومن ثم، ستجد إريتريا نفسها في خضم صراعات معقدة ومتشابكة، وقد تضطر إلى إعلان مواقف قد تؤثر بشكل مباشر على الوضع في السودان.

إثيوبيا

منذ أبريل/نيسان 2019 وحتى اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، أقامت إثيوبيا علاقة استثمارية ومالية وثيقة مع قوات الدعم السريع. وقد بدأت هذه العلاقة باستثمارات تجارية وودائع مالية ضخمة، وتجسد هذا التعاون في جوانب متعددة، بدءًا من الدعم السياسي وصولًا إلى التعاون الشامل في مختلف المجالات. ففي عام 2020، تم إلحاق 12 جنديًا من قوات الدعم السريع للتدريب على الطيران في إثيوبيا، كما تم تسجيل عدة شركات تابعة للدعم السريع في أديس أبابا في العام نفسه.

وقد شملت هذه العلاقة أيضًا الاستثمار في المشروعات العقارية، حيث قامت قوات "الدعم السريع" بشراء مستشفى إثيو تبيب (Ethio-Tabib hospital) وشرعت في توسيع نطاق أعمالها في مشروعات استثمارية عقارية واسعة النطاق. وإضافة إلى ذلك، استحوذت الدعم السريع على سلسلة منتجعات كُرفتو (Kuriftu) في مناطق مختلفة من إثيوبيا، وشملت الصفقة أيضًا منتجعًا فاخرًا يحمل اسم "آللالا – Allala resort" في مدينة أواسا بجنوب إثيوبيا.

وتشير مصادر إثيوبية مطلعة إلى أن الأموال التي تم استثمارها في هذه المشروعات في العامين 2020 و2021 بلغت في المرحلة الأولى 100 مليون دولار أمريكي. كما توجد دراسات مستقبلية لمشروعات عقارية وفنادق أخرى، بالإضافة إلى عمليات شراء أسهم في بعض المؤسسات والشركات الأخرى.

لذلك، عندما اندلعت المواجهات المسلحة في منطقة الفشقة السودانية على الحدود مع إثيوبيا، وشاركت مكونات القطاع العسكري النظامي مثل الجيش والقوات المسلحة في الدفاع عن الفشقة، امتنعت قوات الدعم السريع عن المشاركة في الذود عن الأراضي السودانية. ويبدو أن ذلك يعود إلى تورط إثيوبيا في مشروع مشترك في المنطقة، الأمر الذي قد يمنع الدعم السريع من إرسال قوات لحماية المنطقة المتنازع عليها.

وعلى الرغم من ذلك، ذكرت تقارير دبلوماسية غربية أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لم يتقبل فكرة طرحها عليه محمد حميدتي خلال زيارته إلى إثيوبيا في منتصف العام 2021. وتتعلق الفكرة بتدخل قوات الدعم السريع لصالح الحكومة الإثيوبية والمشاركة في مطاردة ومحاربة مليشيات "فانو" ومجموعات "الأمهرة" العسكرية. واعتبر آبي أحمد أن هذه الفكرة غير مستساغة وغير مقبولة على الإطلاق، حيث رأى أن الجيش الإثيوبي قادر تمامًا على التعامل مع هذه المسألة بمفرده، وأنها تعتبر مسألة سيادة وطنية داخلية تخصّ إثيوبيا وحدها.

وفيما يتعلق بالموقف الإثيوبي من القوات المسلحة السودانية، فمنذ عهد البشير، كانت هناك اتهامات إثيوبية لجهاز استخبارات الجيش السوداني بدعم جبهة التيغراي. ولكن خلال الفترة الأخيرة، تراجعت هذه الاتهامات حدة مع استمرار القلق الإثيوبي حيال هذا الأمر.

وتوجد عدة تيارات داخل الحكومة الإثيوبية تدعو إلى إقامة علاقات طيبة وحسنة مع السودان، وتجنب أي تصعيد من شأنه أن يؤدي إلى تأزيم الوضع بين البلدين. ومع ذلك، يبدو أن التيار الغالب حاليًا يميل إلى تبني التوجهات الإسرائيلية تجاه السودان.

ومن الواضح أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يؤكد على حق السودانيين في التواجد في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، وممارسة الأنشطة السياسية المدنية المشروعة. ومع ذلك، يشير إلى أن أي تحول لهذا التواجد إلى أعمال عدائية مسلحة، سيواجه بالوقف الفوري لهذه الأنشطة وطرد القائمين عليها. وهذا يعكس استعداد إثيوبيا للسماح بوجود سياسي سوداني في العاصمة، شريطة عدم التسامح مع أي أعمال تهدد الأمن والاستقرار الإثيوبي.

ومن ناحية أخرى، فإن الدعم اللامحدود للمتمردين وأعوانهم، والضغط السياسي الذي تمارسه إثيوبيا ودول أخرى على مفوضية الاتحاد الأفريقي، وتعزيز مواقفها المتشددة تجاه السودان، يشير إلى تورط محتمل لإثيوبيا في دعم العناصر المعارضة للحكومة السودانية. وقد يشمل هذا التورط تقديم الدعم المادي أو اللوجيستي أو الدعم السياسي والإعلامي.

ومن الجدير بالذكر أن موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ومدير مكتبه محمد ولد لبات يمكن أن يكون لهما دور محوري في محاولة تسوية النزاع أو التدخل في المسائل المتعلقة بالسودان. وقد يشكل هذا تحالفًا ممكنًا مع إثيوبيا في الوقت الراهن.

وخلال الزيارة التي قام بها قائد المتمردين إلى أديس أبابا يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تجلى حجم الاستقبال الرسمي البالغ الذي حظي به في مطار أديس أبابا، وفي لقائه مع رئيس الوزراء الإثيوبي في مبنى البنك التجاري الإثيوبي، حيث أودع حميدتي خلال هذه الزيارة مبالغ مالية كبيرة في البنك التجاري الإثيوبي Ethiopian commercial bank ECB.

وتجدر الإشارة إلى أن توقيع اتفاق بين حميدتي ورئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ومجموعته من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، يمكن أن يكون له تأثير كبير على المشهد السياسي في السودان. وستكون تفاصيل هذا الاتفاق والتزامات الأطراف المتعاقدة ذات أهمية بالغة لمستقبل السياسة في البلاد.

وخلاصة القول، إن الموقف الإثيوبي المعلن رسميًا يتمثل في دعم مبادرة "الإيغاد" وإيجاد حل سلمي للنزاع الدائر في السودان، وحرص إثيوبيا على الحل السياسي، إلا أن السودان وأطرافًا أخرى في جواره، وقوى إقليمية ودولية، ترى أن الموقف الإثيوبي يتطابق مع دعم التمرد، ويفتح الباب على مصراعيه لتقوية شوكة المتمردين وتعزيز قدراتهم.

وإلى جانب ذلك، لا يراود المراقبين في منطقة القرن الأفريقي أي شك في أن استقبال إثيوبيا لأحد قادة المتمردين في منطقة النيل الأزرق (جوزيف تكة – قائد عسكري منشق على مالك عقار رئيس الحركة الشعبية ونائب رئيس المجلس السيادي)، وترتيب زيارة مشتركة له مع عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية "شمال" إلى أبوظبي، وقبول مقترح إنشاء مطار ترابي قرب الحدود السودانية – الإثيوبية في مناطق (يابوس)، ثم التراجع عنه مؤقتًا، هو خطوة تصعيدية غير محسوبة النتائج، وقد تكون عواقبها وخيمة على المنطقة الحدودية، خاصة أن عناصر جوزيف تكة المتواجدة هناك، غير مرحب بها في إقليم بني شنقول والجبهة الإثيوبية المعارضة للحكم في أديس أبابا، فأي معارك هناك أو توترات أمنية تهدد موقع سد النهضة الإثيوبي، ولا يمكن للحكومة الإثيوبية أن تغامر بذلك.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة